حتى القرن العشرين لم يتوصل العلماء إلى أي سر حقيقي من أسرار النوم , و سوف نستعرض في مقالنا أشهر ما كُتب في هذا الموضوع .
نظرية متشنيكوف تلميذ باستور
نظرية متشنيكوف في أواخر القرن التاسع عشر .. تقول نظريته إن النوم يحدث بسبب تراكم نفايات عمليات الأيض في الدماغ ، و هذه النفايات يتخلص الجسم منها بالنوم .
و قال : إنه أثناء العمل نهاراً تنشط العضلات ، و أعضاء الجسم جميعاً ، فيرتفع مستوى أحماض معينة بالدم حتى يصل إلى مستوى لا يعود باستطاعة الجسم احتماله فيتخلص منه بالنوم ، و بذلك ظهرت النظرية الحديثة التي تفسر سبب النوم و هي النظرية الكيماوية أو نظرية التسمم الذاتي .
النظرية الكيماوية ( نظرية التسمم الذاتي )
تقول هذه النظرية : إن أعضاء الجسم تنشط في العمل أثناء اليقظة بالنهار ، فينتج عن ذلك مواد في الجسم أطلقوا عليها اسم بروتوجين تسبب الشعور بالميل الشديد إلى النوم ، و هذه المواد تتحلل بعملية النوم بواسطة التأكسد .
و إذا صحت هذه النظرية تصح أيضاً نظرية مشابهة هي نظرية التسمم الذاتي بحامض اللبنيك التي تحدث في الإنسان و الدواب أيضاً ، إلا أنه لم يظهر حتى الآن ما يؤيد هذه النظرية .
و قد ظهرت نظرية أخرى تقول إن التسمم الذاتي ليس بواسطة حامض اللبنيك و لكن بواسطة مواد قلوية تُسمى لوكومافين , و هذه المواد تؤثر على المراكز العصبية ، فتُحدث استرخاءً عضلياً و عصبياً و خمولاً ينتهي بالنوم . و أثناء النوم يتخلص الجسم من تلك المواد , حينئذ يزول الاسترخاء و الخمول و يتجدد النشاط ، و تكون اليقظة و الرغبة فى العمل .
و إذا صدقت هذه النظرية عن النوم فإنها تُثبت المشابهة بين النوم و الموت و أن النوم نوع من الموت إلا أنه موت أصغر .
نظرية تتعلق بأجهزة المناعة في الجسم
أجريت تجارب معملية على حيوانات كالكلاب مثلاً أجهدوها بالحركات العضلية العنيفة و لعدة أيام كالجري مثلاً ساعات طويلة ، حتى أصابها التعب الشديد و تم ذبحها .
و استخرجوا خلاصة من عضلات الكلاب الميتة حقنوا بها حيوانات سليمة مستريحة ، فكان تأثيرها مهلكاً ، فقد ظهرت عليها علامات الضعف الشديد ، ثم ما لبثت أن ماتت بعد ٢٠ - ٤٠ ساعة .
و أجروا تجارب أخرى بأن حقنوا حيوانات سليمة مستريحة بكميات أقل لا تكفي لموتها . و كانت النتيجة أن أجهزة المناعة في أجسام تلك الحيوانات أنتجت مواد حيوية مضادة .
و اعتقد أصحاب هذه التجارب العلمية أنهم قد توصلوا إلى إنتاج مصل ضد الشعور بالتعب و الإرهاق ، أو الخمول و الميل إلى النوم ، و قالوا : إن هذه التجارب أثبتت نظريات التسمم الذاتي التي تفسر سبب النوم ، و إن النوم الذي يحدث للمرضى المصابين بمرض النوم ، يحدث بسبب التسمم الذاتي الذي يحدثه الطفيل المسبب للمرض .
أحدث ما وصل إليه العلم عن النظرية الكيماوية
قال العلماء : أنه أثناء اليقظة تحدث آلاف العمليات الكيميائية بالجسم تُنتج نفايات كانت مجهولة .
و قد توصل العلماء في جامعة هارفارد بأمريكا سنة ۱۹۸۲ إلى تحديد التركيب الكيميائي لتلك النفايات ، و التي يُطلق عليها أحياناً اسم ( مادة النوم الطبيعية ) .
و وجدوا أنها مكونة من أربعة أحماض عضوية اثنان منها موجودان بالفعل في الجسم هما الجلوتامين و الألانين ، و اثنان يوجدان في البكتريا و هما: حامض داي أمينو بنمليك و حامض الميروميك .
و عندما حقنوا ( مادة النوم الطبيعية ) هذه في مجموعة من الأرانب زادت مدة نومها إلى الضعف ، و بدون حدوث أي آثار جانبية مثل تلك التي تحدث نتيجة تناول الأدوية المهدئة و الأدوية المنومة ، فالحيوانات كانت تنام نوماً طبيعياً بعد حقنها بتلك المادة , و تفسير هذه النظرية كالآتي :
الجسم أثناء اليقظة و نشاطه العضلي ينتج نفايات من عمليات الأيض ، و هذه النفايات مواد سامة فهي سموم منومة تزداد تدريجياً في الدم ، و في السائل الشوكي الدماغي ... و تُحدث الشعور بالتعب و الإجهاد و الخمول في الجسم .
و يتخلص الجسم من تلك المواد عن طريق تحللها و تأكسدها أثناء النوم ، فيستعيد الجسم نشاطه من جديد و يستيقظ .
و حديثاً أطلقوا اسماً جديداً لسموم النوم هو ( المادة المسببة للنوم ) و اعتقدوا أنها المادة المسببة للنوم الطبيعي .
مواد منومة تتكون في المخ
اكتشف العلماء حديثاً أن الغدة الصنوبرية موجودة في مركز المخ بين نصفي المخ ، و هذه الغدة تفرز هرمون الميلاتونين الذي يكون تركيزه عالياً أثناء النوم ، مما يدل على أن له صلة وثيقة بالنوم .
و وجدوا أن أي إنسان إذا تناول مقداراً صغيراً من الميلاتونين قبيل المغرب شعر برغبة قوية في النوم بعد العشاء , و لا ندري هل يؤثر هرمون الميلاتونين تأثيراً مباشراً على النوم أم غير مباشر ؟
و في عام ۱۹۸۳ اكتشف فريق من الباحثين في اليابان أن مادة البروستاجلاندين إذا حُقنت مقادير قليلة منها في مخ فأر فإنه سرعان ما ينام , و مادة البروستاجلاندين تتكون داخل الجسم ، و تلعب دوراً مهما في عمليات الالتهابات الميكروبية و الحميات .
و ثبت أن الأدوية التي تقاوم تلك الحالات في الجسم مثل المضادات الحيوية و الأسبرين ، تحول دون تكون البروستاجلاندينات في الجسم .
و أُكتشف في جامعة كيوتو في اليابان أن كمية البروستاجلاندين التي تسبب النوم تماثل مستوى تركيزها في نسيج المخ ، مما يدل على أن لمادة البروستاجلاندين دوراً كبيراً في تنظيم عملية النوم .
و ثبت أن النوم الذي تسببه تلك العقاقير ليس مماثلاً للنوم الطبيعي ، و أن لها آثاراً جانبية سيئة ، و إذا كان الأمر كذلك ، فإنه يتحتم على الأطباء أن يستخدموا مواد طبيعية ذاتية المنشأ ( أي تتكون داخل الجسم ) مثل ( المادة المسببة للنوم ) ، و إذا حدث هذا فإن علاج الأرق مثلاً يكون علاجاً تعويضياً ، مثل علاج حقن مريض السكري بالأنسولين .
إلا أن هذا النوع من العلاج لا يزال غير ميسور ، فلم يتم التوصل بعد إلى معرفة التركيب الكيميائي الكامل للمادة المسببة للنوم حتى يمكن استخدامها في العلاج .
النظرية الموضعية للنوم
قبل أن يخترع العلماء التخدير العام عند إجراء العمليات الكبرى ، كان الجراحون يجرون عملياتهم الجراحية حتى في الدماغ دون الاستعانة بالتخدير لأن المواد المخدرة لم تكن معروفة لديهم ، و لم يكن في استطاعتهم إلا إعطاء أولئك المرضى جرعة كبيرة من الخمر تُحدث لهم ما يشبه غيبوبة السكر .
- و لاحظ الجراحون أن بعض المرضى و هم في حالة يقظة . يستسلمون فجأة للنوم عميق عندما تمس الأدوات الجراحية أماكن محددة في قاع المخ .. فاعتقدوا بوجود مراكز للنوم في المناطق العميقة قرب قاع المخ . و كان افتراضهم وجود مركز للنوم افتراضاً معقولاً جداً ، فالنوم عملية فسيولوجية ، شأنها شأن أي عمليات فسيولوجية أخرى بالجسم مثل عمليات التنفس ، و ضربات القلب و الإحساس بالجوع و العطش .. و كل هذه العمليات لها مراكز عصبية موجودة في المخ تسيطر على تلك العمليات الفسيولوجية ، إذن لا بد أن يكون للنوم مركز في المخ يتحكم في الدخول في النوم و الخروج منه إلى اليقظة .
- و اكتشف علماء الفسيولوجي ( علم وظائف الأعضاء ) في أوائل القرن العشرين أن المرضى الذين يموتون نتيجة الالتهاب الدماغي كانوا يتعرضون قبل وفاتهم لاضطرابات في النوم مثل النوم المتواصل , و بعد الوفاة شرحوا المخ فوجدوا الإصابة الالتهابية تقع قرب قاع المخ .. فافترضوا وجود مركز النوم في مخ الإنسان في تلك المنطقة .
- و في عام ۱۸۹۰ اكتشف عالم كان يُدعى ( موتنر ) أن ( مرض الالتهاب الدماغي النومي ) يُدخل المريض في نوم متواصل حتى يتوفى ، و اكتشف هذا العالم أن مرض الالتهاب الدماغي النومي يعمل على المناطق الرمادية حول بطينات الدماغ .
- و اكتشف عالم آخر فى أوائل القرن العشرين أن الإصابة بذلك المرض تقع في النواة الحمراء في أحد جانبي الدماغ ، و امتدت إلى منطقة تحت المهاد البصري التي تقع في قاع المخ .
- و كان أكثر المتحمسين لفكرة مركز النوم في قاع المخ العالم السويسري بوجابرت ، و أثبتها بكثير من التجارب العلمية ، و استطاع أن يصل إلى تلك المناطق بواسطة أسلاك غرسها فيها . وكان هذا العالم إذا بعث تياراً كهربائياً إلى منطقة قاع المخ , ينام الحيوان الذي وضعه تحت التجربة .
- و الاعتقاد السائد الآن بين العلماء أن النوم يحدث نتيجة نشاط كيماوي و نشاط موضعي في المخ.
- وثبت في الأربعينيات من القرن العشرين أن في جذع المخ شبكة واسعة من الخلايا العصبية تُعرف باسم التكوين الشبكي . واكتشف أن تنبيه الجزء الخلفي منها يحدث حالة من النوم العميق ، بينما تنبيه الجزء الأمامي منها يحدث يقظة .
- و ظهرت بعد ذلك دراسات كثيرة و معقدة تشير إلى أن مادة السيتروتونين تلعب دوراً هاماً في تنظيم عملية النوم ، و إذا كان ذلك صحيحاً , فإن إيقاف عمليات تكوين السيروتونين يوقف النوم ، و إن تنشيط عمليات تكوين السيروتونين يحدث نوماً لفترة طويلة .
أسباب النوم ما زالت مجهولة
لا شك أن التجارب التي حدثت عند النوم المغناطيسي منذ أوائل القرن العشرين قد زادت مشكلة فهم أسباب النوم تعقيداً , إذ كيف يحدث لبعض الناس النوم بمجرد التلقين ؟ و كيف يحدث ذلك النوم المُسمى ( النوم المغناطيسي ) بدون المادة المسببة للنوم في مخ النائم ؟
إن هذا يدل على أن أهم أسباب النوم ما زالت
مجهولة .
خاتمة الموضوع
إن النوم حالة إيجابية و ليست سلبية، و لها علاقات مباشرة مع حالة اليقظة . و لكن أيهما أسبق في الإنسان ، النوم أم اليقظة ؟ لا شك أن النوم هو الأسبق و الأصل في الإنسان ، و أن اليقظة حالة ثانوية ، فالإنسان في بدء خلقه كان جنيناً في حالة نوم في بطن أمه .
و لو اجتهد العلماء في دراسة أسرار حالتي النوم و اليقظة لوقفوا على أسرار كثيرة .
فالإنسان الحقيقي ذات إنسانية لا مادية ، تركب الجسد المادي في الحياة الدنيا . وإذا مات الجسد المادي يعود إلى التراب الذي خُلق منه ، و تعود الذات الإنسانية الروح و النفس و العقل إلى عالمها العلوي ، حيث تحيا حياة أرقى من الحياة الدنيا ...