مصعب بن عمير

مصعب بن عمير
 

  • المُنًعم   
  •  المُدلل 
  •  القارىء    
  • المُقرىء     
  •  مصعب الخير

ألقاب الصحابي الجليل مصعب بن عمير الذي كان فاضلاً من فضلاء الصحابة، وكان خيراً محبوباً. تدلل في بيت أبويه، ونال من الرعاية والحنان ما لم ينله غيره، وعاش عيشة رغيدة قلَّما يعيشها غلام قي تلك الأيام.

كانت أمه غنية مليئة تكسوه أحسن الثياب وأجملها، لا يهمها غلاء ثمنه ولكن يهمها جمال قماشه لتزين به ولدها المحبوب "مصعب".تشتري له النعال الحضرمية. ومن يلبس هذا النوع من الأحذية إنما يُعد واحداً من اثنين؛ إما ابناً لأحد الأثرياء أو ابناً لأحد الملوك والأمراء.

حسده أقرانه بمكة لما يحظى به من بُحبوحة العيش الرغيد. وكان غلمان مكة يقولون عنه : كان مصعب أعطر أهل مكة.

إسلام مصعب بن عمير

في تلك الأيام كانت مكة المكرمة تنام على أحاديث الناس حول محمد صلى الله عليه وسلم وهذا الدين الذي جاء به.

دينٌ سَفَّهَ آلهة العرب وأصنامها، وفرق بين الأب الكافر وولده المؤمن. دين ينبذ عادات الجاهلية، ويدعو إلى التوحيد الخالص ومكارم الأخلاق. دين يُحسن الحسن ويُقَبّح القبيح، ولكن كيف ينسلخون من جاهليتهم التي توارثوها؟؟!!

وتصبح مكة بعد كل ظلام لتستأنف أحاديثها التي ودعتها بالأمس.
تجتمع المجالس وتنفضُّ على هذا النبأ العظيم..."مُحَمَّد...والقرآن".

وهكذا... لا يختتم الناس نهارهم إلا بتلك الأخبار، ولا يستقبلون النهار الآخر إلا بها. إنها الدوامة العظيمة التي عبثت بالجاهلية من داخلها. بل إنها العاصفة المدمرة التي عصفت بكل ما لا يرضاه العقل السليم، والفكر المستنير،والفطرة البشرية.

فكيف لا يصبح " محمد...الإسلام...القرآن"حديث المجتمع في مكة، وموضوع حلقاتها حول الكعبة والأصنام المتناثرة حولها!!

ويمر الشاب "المدلل"و"المعطر" على حلقات قريش وأنديتها فيتمنى كل واحد أن يجلس بجانبه ليشم من عطره ويجلي نظره من ثوبه ونعله، لكن مصعباً رضي الله عنه لا يرضى أن ينغمس في الجاهلية كما انغمس في النعمة.

وسمع مصعب أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع مع أصحابه في الصفا في "دار الأرقم" بعيداً عن رقابة قريش.

 انطلق مصعب  إلى دار الأرقم  حيث جلس مع النخبة المختارة، مع المؤمنين الصادقين، وهناك مسح الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم على صدر مصعب، فكأنما أزال عنه أذى الجاهلية، وبارك له فيه، وغرس له فيه بذور الإيمان.

سمعت أم مصعب  بإسلامه، فغضبت وحبسته في دارها، وأذاقته الذل والهوان انتصاراً  لآلهتها التي أهانها مصعب بإسلامه، وسَفَّه أحلام الذين يسجدون لها من دون الله.

هجرة مصعب بن عمير إلى الحبشة

غافل مصعب أمه التي حبسته ، وانسل من داره بعد أن اتفق مع المسلمين الذين قرروا الخروج من بلاد العرب إلى الحبشة لاجئين. 

مكث مصعب في الحبشة فترة ثم عاد، وقد تغيرت أحواله، وذهب عنه النعيم الذي عاش فيه منذ طفولته، وقد أصبح خشناً في لباسه شعثاً في مظهره.

كان يود أن يعيش في بلده مكة آمناً مطمئناً، لكن المشركين ضايقوهم مرة ثانية، وكانت أم مصعب من أشد الذين أذاقوا ولدها العذاب والتنكيل فقررت أن تحبسه على أن يقيده الرجال بالحديد، فأخبرها مصعب أنه سيقتل كل شخص يحاول الإقتراب منه لتقييده.

وقرر الهجرة الثانية إلى الحبشة، فلما همَّ بالخروج خرجت أمه باكية، وودعها مصعب باكياً لأنه فقد حنان الأم ورحمتها  لولدها، حين سمعها تقول له في لحظات الوداع: اذهب لشأنك لم أعد لك أماً.

واقترب مصعب من أمه ، اقترب الشاب المؤمن الذي علمه الإسلام البر وحسن الخلق , اقترب منها داعياً لها للإسلام.فثارت ثائرتها رافضةً ذلك. 

ولينطلق مصعب مرة ثانية إلى الحبشة، تاركاً النعمة والرفاه عند أمه التي أعلنت براءتها منه، مقبلاً على شظفِ العيش، وقساوة الحياة، مقبلاً على الجوع والعري، والفقر والفاقة، ولكنه في الحقيقة مقبلاً إلى رضوان الله، وإلى الخلود الحقيقي.

زوال النعمةعن مصعب بن عمير والتواضع

حين قرر مصعب اعتناق الإسلام ، رسخ لديه أن الإيمان فوق كل شيء، وأن الصبر على مكاره الحياة من أجل الإيمان، خيرٌ من التنعم في لذائذ الجاهلية، وكانت أيامه قبل إسلامه أيام رخاءٍ و رفاهية يعرفها القاصي والداني من أهل مكة ومن حولها.

لقد كان الأولاد الذين من عمره يودون أن يقفوا بجانبه أو يسيروا معه أو ينالوا شرف مسايرته ومجالسته.

فلما أسلم مصعب هجر لذائذ الحياة أو هجرته هذه اللذائذ إلى خشونة العيش، وعيشة الكفاف. لقد جاء ذات يومٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عدد من المسلمين يستمعون دروسه ومواعظه، فلما رأوْه حنوا رؤوسهم، وطأطأ كل واحد منهم إلى الأرض وذرفت عيونهم الدموع الغزار.

كيف لا يحزنون على مصعب ويبكون؟؟ وكانوا يرونه بالأمس من أعطر شباب أهل مكة، فإذا به اليوم يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً ,فسلّم مصعب فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه وأثنى عليه.

هنيئاً لمصعب الذي نال حب الله ورسوله ، وتجرد من سفاسف الدنيا وأقبل إلى الله مخلصاً. تاركاً حياة النعيم في الجاهلية التي تقود إلى الكفر ، مقبلاً إلى العيشة البسيطة في رحاب الله حيث تعود إلى الإيمان والجنة.

 داعية المدينة

فشا الإسلام في المدينة المنورة، وأخذ الناس يتساءلون في مجالسهم عن الدين الجديد الذي غير مجرى حياتهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق والإيمان بالله تعالى، ويدعو إلى الكفر بالأصنام.

فكتب الأنصار من أهل المدينة المنورة كتاباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعث إليهم رجلاً يفقهم في الدين و يقرئهم القرآن.

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم مُصعباً إلى المدينة المنورة ليُعلِّم أهلها الإسلام، ويزرع فيهم بذور الإيمان، فإذا الناس فيها يلتفون حوله وساعده على تعليمهم أسعد بن زُرارة، فكانا يجلسان معاً يعلمان الناس.

كان مصعب يأتي الناس إلى دورهم فيعلمهم ويُفقههم، ويذهب إلى قبائلهم يدعوهم إلى الإسلام، حتى ظهر الإسلام وفشا بين الناس في المدينة وما حولها.

موقف مصعب بن عمير يوم أحد

في معركة بدر حمل مصعب الراية.

ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم في وجوه الصحابة يوم أُحد ليختار من يحمل الراية لهذه المعركة المقبلة فاختار مُصعباً ودفعها إليه.

حين خالف رماة الجبل أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا مواقعهم بعد تحقيق النصر ونزلوا إلى ميدان أحد لينالوا نصيبهم من الغنائم، انقضَّ خالد بمجموعة من فرسان المشركين فمزقوا شملهم، وبعثروا جيشهم،وقلبوا نصرهم الساحق إلى هزيمة.

كان مصعب في هذه الظروف يقاتل منفرداً، يد تحمل اللواء، وأخرى تحمل السيف وتضرب به هام المشركين.

وأراد المشركين أن يصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، لكن مُصعباً كان كالسدّ في وجوههم يمنعهم من الوصول إليه.

 الشهادة أو النصر

هذا الشعار حمله المسلمون في معركة أحد وفي كل معركة خاضوها.

كان مصعب في هذه المعركة بطلاً صنديداً، وقف بمفرده يقاتل ويحمل اللواء. وقد صمم أن لا يصل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان يعلم أن دون ذلك روحه وحياته. وأن الراية لا بد أن تسقط لأن كثرة المشركين واستعادتهم لمعنوياتهم وانهزام المسلمين وتشتتهم تستدعي سقوط الراية وحاملها. 

راح مصعب يصمد أمام هجمات المشركين عليه، ولكنه قرر الصمود والثبات وعدم السماح لهم بالوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأقبل إليه ابن قميئة على فرسه فضربه على يده اليمنى فقطعها، وكان مصعب يردد الآية: "وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرُّسل".

وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه.

وعاد إليه ابن قميئة فضرب يده اليسرى فقطعها.

ولم يترك مصعب اللواء يسقط على الأرض فضمه بعضديه إلى صدره وراح يتابع ترديد الآية…

 استشهاد مصعب بن عمير يوم أحد

في معركة أحد سقط مصعب، لكن سقوطه في هذه المعركة وبهذه الصفة يختلف عن سقوط غيره واستشهاده.

سقط مصعب شهيداً.

سقط وقد فقد يديه فضم اللواء بعضديه.

سقط وهو مصمم أن لا يصل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا ينالوا منه شيئاً أو يؤذونه بشيء.

أي عزيمةٍ كان يتحلى بها مصعب!!! وأي ثباتٍ ثبت!!

وانتهت المعركة المريرة، وجاء الرسول القائد يتفقد آثارها.

لقد وجدوا مُصعباً رضي الله عنه شهيداً. وقد أخفى وجهه في تراب أُحد المضمخ بدمه الطاهر. كأنه رأى هزيمة المسلمين قُبيل أن يلفظ نفسه الأخير فأصر ألا يرى نتائجها غير السارة، فمرّغ وجهه في التراب، وعفره به حتى لا يرى نتيجة الخسران.

وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكفنه فبحثوا عن كفن فلم يجدوا إلا غرَةً ( نوع من القماش تُصنع منه البُردة) إذا وضعوها على رأسه تعرت رجلاه، وإذا وضعوها على رجليه برز رأسه، فدعاهم رسول الله أن يضعوها مما يلي رأسه و أن يضعوا على رجليه من نبات الإذخر و هو نبات طيب الرائحة.

ودفنوه... دفنوا الشهيد البطل، دفنوا الذي نذر نفسه لله، ونذر أن لا تسقط راية الإسلام حتى يسقط شهيداً.

حقاً لقد صدق مصعب فيما عاهد عليه الله.

وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة لقيته حمنة بنت جحش زوجة مصعب، فنعى لها أخوها عبدالله بن جحش.

فقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون. 

ثم نعى لها خالها حمزة بن عبدالمطلب. 

فقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون. 

ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير
فصاحت وولولت.

ذهب مصعب شهيداً وهو ابن أربعين سنة، قضاها في إيمانٍ، وكفاحٍ واختتمها بشهادةٍ في سبيل الله. إنها سنواتٍ نضرة ناصعة البياض من عمر بطلٍ ترك الدنيا وأقبل إلى الله ورسوله.
فليقتدي الشباب بمصعب، وليقتدي الرجال بمصعب رضي الله عنه وأرضاه .

تابع أيضاً أبو عبيدة بن الجراح

نبض أقلام
بواسطة : نبض أقلام
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-