أبو عبيدة بن الجراح هو عامر بن عبدالله بن الجراح الفهري القرشي.
أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأمين هذه الأمة.
ولد بمكة المكرمة قبل أربعين سنة من الهجرة /584م/ وكان داهية يعتبر بعد أبي بكر الصديق، وهو من السابقين في الإسلام.
أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وهاجر إلى المدينة المنورة فآخاه النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي طلحة الأنصاري. و كان الصحابة يسمونه : القوي الأمين.
وعندما قدم أهل اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام فقال صلى الله عليه وسلم: " لأبعثن معكم رجلاً أميناً، حق أمين، حق أمين، حق أمين" وقال لأبي عبيدة: أخرج معهم فاقضِ بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه".
وسُئلت عائشة: من كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أبو بكر ثم عمر ثم أبو عبيدة بن الجراح.
وكان محترماً في قومه في الجاهلية. مستشاراً فيهم ، معروفاً بالرأي والدهاء. وكان يُقال: داهيتا قريش أبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح.
إسلام أبو عبيدة و صحبته
أسلم أبو عبيدة بن الجراح ونال فضيلة الأسبقية لاعتناق هذا الدين الذي رفع أهله بالتوحيد، وكشف أباطيل الجاهلية، وأظهر مساوئها وآثارها.
قبل أن يبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم أصحابه في دار الأرقم انطلق أبو عبيدة وعدد من الذين دخل الإيمان في قلوبهم، حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهم الإسلام، وأنبأهم بشرائعه فأسلموا.
وأخلص أبو عبيدة في إسلامه، فكان صادقاً قوياً متفانياً بحب الله ورسوله. حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألق عليه لقب أمين الأمة.
إن إنساناً ينال هذا الشرف الرفيع لا بد أنه يتمتع بمكانة عالية عند رسول الله وبين أصحابه.
كان مخلصاً تقياً ورعاً وكان يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر أصحابه.
أبو عبيدة قاتل أبيه في بدر
معركة بدر كانت الفيصل بين الحق المتمثل بالإسلام يحمل لواءه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الباطل المتمثل بالمشركين يحمل لواءه طواغيت قريش، ولا شك أن قتلى المسلمين في الجنة، وقتلى المشركين في جهنم وبئس المصير.
جاء عبدالله بن الجراح والد أبي عبيدة شاهراً سيفه ليتصدى لابنه المؤمن ويقتله، فراح أبو عبيدة يحيد عن أبيه ويبتعد عنه، لا يريد أن يضربه حتى لا يقول المشركون والمرجفون: إن المسلمين يقتلون آباءهم.
راح أبوه المشرك بالله والكافر به يقصده ليقتله، والولد يحيد عنه ويبتعد مراتٍ ومرات، فلما عرف أبو عبيدة تصميم أبيه على قتله ضربه فقتله.
كان أبو عبيدة في بدر يصول ويجول وينافحُ عن الإسلام بسيفه.
أبو عبيدة في أحد؟!!
شعرت قريش بمرارة الهزيمة فقررت الثأر من المسلمين ورسولهم، والتخلص من الدعوة وأهلها في معركة يأخذون فيها بثأر قتلاهم في معركة بدر.
زجّت قريش رجالها وسلاحها، ووقف المسلمون الأبطال يذودون عن دينهم الحنيف ورسولهم الكريم بأرواحهم وما يملكون.
جاء سهم طائش أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه، فدخلت حلقتان من حِلق المِغْفَر في وجهه وراح الدم يسيل.
انطلق أبو عبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب بسيفه المشركين ليصل إليه قبل غيره، فلما وصله رآه يمسح الدم عن وجهه ويقول:" كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟؟"
صفات أبو عبيدة وتواضعه
كان أبو عبيدة نحيفاً طُوالاً، خفيف اللحية والعارضين، أثرم الثنيَّتين، معروق الوجه، يصبغ رأسه ولحيته بالحناء والكتم.وكان يمتاز بالرفق والأناة، والشجاعة والإقدام، روى أربعة عشر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دعا سيدنا أبو بكر الصديق المسلمين أن يختاروا من بعده إما عمر بن الخطاب أو أبو عبيدة عامر بن الجراح.
وحينما ولّي عمر بن الخطاب وعزل خالداً عن قيادة الجيش في الشام ولّى أبا عبيدة عوضاً عنه. فقال خالد في أبي عبيدة: وُلّي عليكم أمين هذه الأمة. بينما قال أبو عبيدة في خالد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن خالداً لسيفٌ من سيوف الله".
وقيل لعائشة رضي الله عنها: أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قالت أبو بكر، ثم عمر، ثم أبو عبيدة بن الجراح.
كان قائداً بطلاً أطلق عنانه أبو بكر فكانت الفتوحات العظيمة على يديه في الشام ثم أصبح قائداً عاماً لجيوش الشام أيام عمر.
وإلى جانب تلك البطولة والشجاعة كان محط الثقة والأمانة بين المسلمين فقد قال عمر لجلسائه ذات يوم: تمنوا!! فتمنى كل واحد منهم أمنيته. وبقي عمر، فماذا كانت أمنيته؟. منهم من أراد الكثرة من المال، ومنهم من تمنى الإمارة، وبعضهم الشهادة، لكن عمر قال: لكني أتمنى بيتاً ممتلئاً رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح.
وحينما جاء عمر إلى الشام سنة 15 للهجرة، تلقاه أمراء الأجناد، فقال عمر: أين أخي؟؟ قالوا: مَن؟!! قال: أبو عبيدة. قالوا: يأتيك الآن. وجاء أبو عبيدة على ناقة مخطومة بحبلٍ، فسلّم عليه، فقال عمر للناس: انصرفوا عنا. ثم ذهب مع أبو عبيدة إلى منزله.
ذهبا ودخل عمر بيت أبي عبيدة، فلم يرَ شيئاً إلا سيفه وترسه.
كانت مكانته عند عمر كبيرة جداً، وكان أبو عبيدة قائداً ناجحاً حكيماً يأحذ بالأسباب ويتكل على الله.
أبو عبيدة الفاتح
انتهت معركة اليرموك بانتصار المسلمين وهزيمة الروم ، وتقدم المسلمون إلى دمشق، وجاء قرار عزل خالد عن القيادة وتولية أبي عبيدة بن الجراح.
وزَّع أبو عبيدة قواته حول دمشق، فكان خالد بن الوليد على الباب الشرقي، وعمرو بن العاص على باب توما، وشرحبيل بن حسنة على باب الفراديس ويزيد بن أبي سفيان على باب الصَّغير.
قام أبو عبيدة بحصار باب الجابية، ودام الحصار قرابة أربعة أشهر، كانت مناوشات دائمة وقصف بالمجانيق.
ثم اقتحم خالد الباب الشرقي حينما شعر بتدهور الموقف داخل المدينة نتيجة قطع الإمدادات. ودخلها شاهراً سلاحه، فلما شعر قائد حامية دمشق بالخطر الذي داهمهم، أمر بفتح باب الجابية فتلاقت قوات المسلمين في سوق النَّحَّاسين، وقد تم الصلح مع أهل دمشق لينعموا بالأمن في ظل الإسلام.
وتقدمت قوات أبي عبيدة إلى سهل البقاع، وبعلبك، فدخلتها صُلحاً بعد أن دارت حولها معارك دامية بين المسلمين وسبعة آلاف مقاتل بقيادة حاكم بعلبك البِطريق "هربيس" الذي أصيب بعدة جروح وانسحب إلى القلعة، ثم رضخ إلى الصلح وقبول شروط المسلمين.
ثم سار أبو عبيدة بجيشه إلى حمص وقد هلعت قلوب الروم من انتصارات المسلمين المتلاحقة، وكان الوقت شتاءً والبرد قارساً، فأوعز هرقل الروم إلى حاكم حمص بالصبر وعدم الاستسلام للمسلمين.
طلب أبو عبيدة من حاكم حمص قبول الصلح لكنه رفض، فشدد المسلمون الحصار ثم كبَّروا تكبيراً هلعت له قلوب الروم داخل المدينة، وتصدعت شرفات الأبنية والقصور بسبب الزلازل التي ضربت المدينة.
تظاهر أبو عبيدة بترك المدينة ومغادرتها، وغادرها تاركاً الأغنام في مؤخرة الجيش فظن الروم أنه غادرهم فخرجوا لينهبوا أموال المسلمين، لكن فرسان المسلمين التفوا حولهم ودارت معركة حامية انتصر المسلمون فيها ودخلوا حمص منتصرين.
استخلف أبو عبيدة على حمص عُبادة بن الصامت لحمايتها وأنزل فيها القبائل العربية المسلمة .
ثم وجَّه إلى قِنِّسرين خالد بن الوليد الذي فتحها ومزق جيوش الروم ومن ساعدهم من خونة العرب مثل جبلة بن الأيهم ومن رافقه. ثم جاء خالد إلى الذين تحصنوا في حصونها فخاطبهم خالد قائلاً: "إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم، أو لأنزلكم إلينا". فحرّر المدينة بسبب غدرهم.
سار أبو عبيدة إلى حماة وشيزر و معرَّة النعمان وحلب وانطاكية فدخلها ثم توجه إلى اللاذقية فحاصرتها قواته ولاقت مقاومة عظيمة من الروم.
استطاع المسلمون أن يحفروا حفراً للفرسان وينصرف الجيش، ثم يرجع الفرسان ليلاً فينزل كل فارس بحفرته.
وفي اليوم الثاني نظر الروم فلم يشاهدوا المسلمين ففتحوا أبواب الحصون وخرجوا، وخرج الرعاة بأغنامهم، وباغتهم الفرسان فدخلوا المدينة معهم وملكوها عنوة.
هرب النصارى ثم طلبوا الأمان على أن يرجعوا إلى أرضهم لقاء خراج يؤدونه، فقبل منهم المسلمون.
بنى عبادة بن الصامت فيها مسجداً لتنظيم شؤون المسلمين، ولما سمع أهل "جبلة" من الروم بسقوط اللاذقية خرجوا منها فتقدمت قوات المسلمين بقيادة عبادة بن الصامت فدخلوها، كما فتحوا "طرطوس" و "بانياس" و "سلميّة".
وشعر ملوك الروم في الجزيرة أنهم اخفقوا في استرداد حمص وغيرها .
قرر المسلمون فتح الجزيرة فتقدمت قواتهم بقيادة القعقاع بن عمرو إلى الكوفة، وتقدمت قوات عياض بن غنم إلى الجزيرة فوصل منبج فصالحه أهلها.
ثم تساقطت مدن الفرات والجزيرة الواحدة بعد الأخرى حتى حران ونصِيبين والرُّها والرَّقَّة وقرقيسيا (البصيرة) وبالِس (مسكنة) فكانت فتوحات الجزيرة أسهل البلدان أمراً أيسرها فتحاً، إذ كانت خسائر المسلمين قليلة، ومقاومة أهلها محدودة، ثم يرضخون ويدفعون الجزية.
وتوغل المسلمون في عمق بلاد الروم، ونظموا حملات "الصوائف" و"الشواتي" وذلك لغزو الروم في عقر دارهم في القسطنطينية.
أبو عبيدة القائد بين جنوده
شُغف المسلمون بأبي عبيدة لِما قام به من فتوحات باهرة، وانتصارات عظيمة رفعت رأس المسلمين عالياً.
إنها القيادة الحكيمة، والشجاعة الرزينة، الأمر الذي جعل جنوده والمسلمين يطلقون عليه لقب "أمير الأمراء" وراحوا يتحدثون عنه في مجالسهم وأوقات فراغهم، عن تواضعه وشجاعته وشهامته وزهده وورعه، الذي يوزع الأموال الطائلة على جنوده ويرضى بكسر الخبز البسيط.
وكاد جنوده يفتنون به كما فتنوا بالأمس بخالد بن الوليد الذي كان لا يخوض معركة إلا خرج منها منتصراً، فكان يتواضع.
إنها كلمات قصيرة ولكنها في الشرح والتفصيل كثيرة جداً، لم تخدعه المظاهر ولا الانتصارات الباهرة التي حققها، ولا الغنائم الكثيرة التي يعفُّ عنها ويوزعها على جنوده.
كل ذلك لم يُغيّر أبا عبيدة بن الجراح، أمين هذه الأمة، بل بقي كما كان جندياً، هدفه واحد وغايته واحدة. أما حينما أصبح قائداً فكما كان من قبل، هويته تتحدث عنه "مسلمٌ من قريش" ونعم ما قال أمير أمراء الشام والجزيرة ومحرر هذه البلاد من الروم الدخلاء.
وفاة أبي عبيدة
اشتد الطاعون فتكاً بالمسلمين، وفرح الروم كثيراً!
لقد مات في هذا الطاعون خمسٌ وعشرون ألفاً من المسلمين. كان أحدهم أبو عبيدة القائد الذي قضى حياته على ظهور الخيل مجاهداً.
أوصى أبو عبيدة من حوله أن يدفنوه حيث يموت. وفي "غور بيسان" كان يقيم حيث توجه إلى بيت المقدس للصلاة فمات قبل أن يصل وذلك سنة 18 للهجرة /639م/ .
أدخله في قبره معاذ بن جبل، والضّحّاك بن قيس، وعمرو بن العاص.
وحينما بلغ نبأ وفاته عمر بن الخطاب بكى وترحم عليه ثم قال: لو كنتُ متمنياً، ما تمنيت إلا بيتاً مملوءاً برجالٍ أمثال أبي عبيدة.
كان نبأ وفاته ثقيلاً على المسلمين، لم يُرَ مثله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه.
وبعد مئات السنين جاء الظاهر بيبرس من مصر إلى فلسطين فأقام على قبره مقاماً في عمواس على بعد أربعة أميال من الرملة على طريق القدس الشريف، ليبقى القبر والمقام في أرض فلسطين راية ذكرى خالدة تخفق في سماء أولى القبلتين وثالث الحرمين.
هذا هو أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، المجاهد الزاهد والقائد المتواضع والمقاتل الجَسُور.