يُعد الريحاني واحداً من أبرز رجالات عصر النهضة ، التقت فيه أكثر من صورة واحدة ، و أكثر من شخصية واحدة ، فهو عند مؤرخيه أكثر من أديب ، هو حامل فكر تنويري ، و صاحب دعوة إصلاحية .
سعى الريحاني لخير العرب و العروبة ، فكان كثير الطواف في البلاد العربية و صاحب رسالة إصلاحية لها ، إذ وضع في رحلاته مؤلفات متعددة بالعربية و بالإنجليزية .
سيرة أمين الريحاني
ولد أمين الريحاني في قرية صغيرة تدعى ((الفريكة) من أعمال منطقة المتن في وسط جبل لبنان في الرابع و العشرين من شهر تشرين الثاني ( نوفمبر ) عام 1876م .
عُرف بـ ( الريحاني) نسبة إلى الريحان ( الآس ) الذي كان يحيط بمنزل الجد فارس ، فبات يُعرف ببيت الريحاني و تلقى علومه الأولية في مدرسة القرية على يد معلم في كنيسة مار مارون ، ثم انتقل إلى مدرسة نعوم مكرزل حيث تَلقن مبادئ الفرنسية و القراءة العربية و الحساب و الجغرافيا .
هاجر إلى نيويورك سنة 1888 بعد الكساد الذي أصاب عمل والده في تجارة الحرير - و كان عمره آنذاك اثني عشر عاماً - بصحبة عمه ( عبده الريحاني) و معلمه ( نعوم مكرزل ) .
و في نيويورك أخذ يتابع دروسه في مدرسة راهبات المحبة ، لكنه انقطع عن الدرس و عمل مع عمه و أبيه في التجارة ، مما أثار في نفسه صراعاً لم ينته إلا و قد نال لقب ( فيلسوف الفريكة ) .
و لم يلبث أن عاد إلى لبنان سنة 1898 إثر مرض ألم به ، فعمل معلماً للإنجليزية في مدرسة ( قرنة شهران ) و واكب في الوقت نفسه على دراسة اللغة العربية و آدابها .
قرأ لزوميات المعري التي نالت إعجابه بما فيها من شعر إنساني ، و عزم على نقلها إلى الإنجليزية ، و كانت ثمرة هذه القراءة نقله رباعيات المعري إلى الإنجليزية ، فذاع صيته في الأوساط الأمريكية .
ومنذ سنة 1922 بدأ رحلته إلى البلاد العربية فزار مصر و الحجاز و اليمن و العراق و نجد ، وهي بلاد لم تكن معرفته بها ذات بال ، و لم يهتد إلى حقيقة أمته العربية إلا عن طريق المصادر الأجنبية ، فأحب العرب و صار يميل إلى الاستزادة من أخبارهم .
كُتب الريحاني و مؤلفاته
و من هذا المنطلق عزم الريحاني على زيارة البلاد العربية و التعرف إلى شعوبها عن كثب . و في جولته الأولى جمع معلومات شتى ضمنها كتبه : ( ملوك العرب ) و ( تاريخ نجد الحديث ) و ( قلب العراق ) و ( المغرب الأقصى ) ، و هي كتب تُعد مصادر موثوقة عن الأقطار التي زارها ، امتازت بدقة الملاحظة و صحة الأخبار غالباً في سرد الأخبار .
أما كتاب ( قلب لبنان ) الذي طُبع بعد موت الريحاني ، فيحتوي أخبار رحلة في بلاده في أوائل الحرب العالمية الثانية ، تحدث فيه عن أحوال لبنان و عادات أهله و تقاليدهم ، في أسلوب رشيق جذاب يحفل بالتهكم .
و هذا فضلاً عن كتب أخرى وضعها بالإنجليزية هي : ( ابن مسعود و نجد ) و ( حول الشواطئ العربية ) و ( بلاد اليمن ) .
حظي الريحاني بتقدير ملوك العرب و أمرائهم أينما حل ، فقد قابل شريف مكة الحسين بن علي ، و سلطان قبائل حاشد ، و الإمام يحيى إمام اليمن , و الملك عبد العزيز آل سعود الذي أهداه سيفه الخاص , و أمير الكويت أحمد الجابر الصباح و شيخ البحرين حمد بن عيسى ، و ملك العراق فيصل الأول .
فكان يتناول معهم قضايا البلاد و يطلع عليها عن كثب ، كذلك اتصل بالطبقات الشعبية ، و فتح أذنيه للناس كافة ، فيسمع الشريف و البدوي ، و الجمّال و الجندي ، و التاجر و السياسي ، ويسرد الحوادث والأخبار التي كان ينقص بعضها الدقة و التمحيص .
و الريحاني كاتب خصب الإنتاج ، فعدا المؤلفات السابقة وضع كتباً أخرى تحدث فيها عن ملوك العرب و أمرائهم ، و أحوال البلاد آنذاك ، تُعد تتويجا لتلك المؤلفات ، و منها بالعربية :
( فيصل الأول ) ، و ( التطور و الإصلاح ) و ( النكبات ) و ( خارج الحريم ) .
و بالانجليزية:
( العراق ) و ( الملك فيصل ) .
و له مجموعة مقالات جُمعت في كتاب ( الريحانيات ) و عدد من القطع الشعرية التي جمعها أخوه ألبرت في كتاب سماه ( هتاف الأودية) .
لم ينضم الريحاني إلى الرابطة القلمية التي تأسست في نيويورك على أيدي كوكبة من الأدباء و الشعراء على رأسهم جبران خليل جبران و ميخائيل نعيمة و إيليا أبو ماضي ، و لعل عدم انضمامه يعود إلى خلافه مع جبران ، و هو خلاف جر إلى خصومة بينهما ، ومن ثم تعذر الجمع بين هذين الأديبين في رابطة واحدة .
إلا أن هذا العداء لم يمنع الريحاني من رثاء جبران ، و استقبال جثمانه حينما نُقل من نيويورك ليدفن في بلدة بشري بلبنان . و دخل مع نعيمة في عراك شديد حين أصدر كتابه الموسوم بـ ( جبران خليل جبران ) إذ وجد فيه إساءة إلى جبران .
أسلوب الريحاني الواقعي في الكتابة
عُرف الريحاني بأدبه الواقعي الذي انفرد به من بين أدباء المهجر ، جمع فيه بين دقة التصوير و نزعته الفكاهية الساخرة .
فالريحاني كاتب واقعي يستمد مادته من الواقع ، فرحلاته تعتمد على أوصافه الواقعية التي يرصد بها البلاد التي كان يطوف في أرجائه ا، فيتحدث عن طبيعتها ، و عادات أهلها و تقاليدهم و هو لا يكتفي بمجرد الوصف لما يراه و يسمعه ، و إنما يمزج ذلك بألوان من التاريخ ، و التعليق و النصح و التوجيه ، و رغبة في الإصلاح .
و هو بواقعيته يمتاز بدقة الملاحظة ، و الصدق في الرواية : فدقة الملاحظة تبدو في الأماكن التي يصفها
بصورة واقعية دون تزويق و هي لوحة متجانسة يمتزج فيها الواقع بالخيال ، و العقل بالإحساس ، لا تخلو من جمال التصوير . و قد أورثته هذه الصفة إمتاع القارئ ، ذلك لأنه لا يتكلف في اختيار الفاظه بل يكتب كما رأى وسمع .
النزعة الفكاهية الساخرة في أسلوب الريحاني
عُرف الريحاني بروح الفكاهة و الدعابة في أدبه و في أدب الرحلات على وجه الخصوص ، بقصد إمتاع قارئه و النأي بسامعه عن الضجر ، فقد تهكم على فنادق بغداد و هو يتحدث عن أسمائها الإنجليزية، إذ يقول:
( أما و نحن الآن في بغداد للمرة الثانية ، فإننا نتوكل بعد الله على الملازم (سردست) ليهدينا إلى ما أُصلح و أُنشئ وجُدد خلال السنين العشر الأخيرة . إن أولها النزل ذات الأسماء الإنجليزية المضللة نزل وندزور - نزل كارلتون نزل كرزون نزل مادجستك وأحسنها وأصدقها في شطر من اسمه - هو هذا النزل الذي نحن فيه فقد كان اسمه نزل مود ، فتغير بعد ذلك مراراً ، وصار يدعى ( تيغر بالاس) أي قصر دجلة .
إنه صادق في الشطر الأخير من اسمه فهو على دجلة ، أما الشطر الأول فهو مثل أسماء النزل الأخرى كذب و تضليل .
نهاية الريحاني
أصيب
الريحاني منذ عام 1907 بمرض عصبي في يده اليمنى لازمته طوال حياته . و
لربما كان وراء مصرعه في حادث دراجة على مقربة من بلدة الفريكة ، حيث وافته
المنية في بيروت في الثالث عشر من أيلول ( سبتمبر ) سنة 1940.
و في عام 1953 أقام أخوه البرت الريحاني (1995) متحفاً خصصه لكل ما خلفه امين الريحاني بعد موته ، ليكون أول متحف لأديب عربي .
و في هذا المتحف الهدايا و الرسائل التي تلقاها من ملوك العرب و أمرائهم ، و الملابس التي كان يرتديها إبان طوافه في البلاد العربية ، بقيت كما كانت في عهد أمين بسقفها المزخرف و أرضيتها الخشبية ، و غرفة أخرى تحوي مكتبته الكبيرة الفخمة ، و غرفة رابعة ما تزال فيها الصورة الدينية التي كانت تخص أمه الودعة طوال حياتها .
المصدر