عندما نطالع في كتب التاريخ أنباء الحوادث التي جرت منذ أربعة آلاف أو خمسة آلاف سنة ، ألا يخطر ببالنا أحيانا أن نتساءل عما إذا كان ما نقرأه حقيقياً ؟ ذلك لأنه يبدو من غير المحتمل أن يستطيع أحد أن يعرف على وجه اليقين ماذا كان يحدث في مثل ذلك الزمن السحيق .
ومع ذلك فليس في الأمر شئ من المستحيل ، فما ترويه لنا كتب التاريخ ليس ابتداعاً ، لأن التواريخ والحروب والشخصيات والأماكن كلها حقيقية ، ولا غرو إذا كانت قيمة التاريخ وجاذبيته تتمثل في أنه يقص علينا وقائع لا زيف فيها .
وهؤلاء وعندما نتحدث " عن التاريخ " ، فإننا نقصد ما كتبه " المؤرخون " ، الذين يعيدون ترتيب حوادثه ، وإليهم يرجع الفضل في الحقائق التاريخية ، أو بعبارة أخرى في صحة المعلومات التي يقدمونها إلينا . وعملهم هذا لكي يصل إلى مستوى الحقيقة ، ليس عملاً سريعاً ولا سهلاً ، وسنرى كيف أنهم يلجأون إلى العديد من القواعد المتخصصة .
أبـو الـتـاريـخ
لعلكم تعرفون بلا شك أشهر الأساطير التي تحيط باليونان وبروما في بداية عهدهما ، وتلك القصص الأسطورية التي ترجع إلى تخيلات الشعراء تجدونها مذكورة في أعمال المؤرخين القدماء .
لذا فإن التاريخ الذي كتبوه عبارة عن مزيج من الأساطير والحقائق ، وفي هذه الحالة لانستطيع أن نعتبر ما كتبوه تاريخاً حقيقياً ، لأن الحوادث التي يسردها لم يتسنى إثبات صحتها .
وأول مؤرخ جدير بهذه الصفة هو اليوناني هيرودوت Herodote الذي عاش في القرن الخامس قبل المبلاد . وقد قام بأبحاث شخصية غاية في الدقة ، متنقلاً أحياناً إلى البلد الذي كان يرغب في التحدث عنه ليتمكن من سرد الحوادث التي وقعت فيه فعلاً .
و قد كانت لديه القدرة على التمييز بأمانة بين المعلومات التي يثق في صحتها ، وتلك التي جمعها من خلال القصص القديمة . ويمكننا أن نقرر أن الواجب الفعلي للمؤرخ قد حدده هيرودوت لأول مرة ، وهذا ما دعا إلى تسميته بأبي التاريخ .
عمـل المـورخ
إذا أراد المؤرخ أن يتبع أحداث حرب ما نشبت منذ عشر سنوات ، فإنه لن يجد صعوبة في معرفة تاريخ وقوعها بالدقة وكيف وقعت ولماذا ، ولكن كل ذلك يصبح بالغ الصعوبة عندما يتعلق الأمر بالحصول على معلومات دقيقة عن حوادث وعن شخصيات بعيدة عنا في مسار الزمن . ومع ذلك فإن المؤرخ يستطيع أن يحصل على ما يريد بفضل العمل الشاق المتواصل .
ولكى يصل إلى الحقيقة فهو يقسم عمله إلى مرحلتين : -
- جمع المواد الصالحة للموضوع المطلوب تأريخه
- غربلة هذه المواد بعناية لفرز الصحيح من الزائف ، وهذه العملية هي ما يطلق عليها اسم : النقد التاريخي Historic Criticism ، ، وهي أهم مراحل العمل .
مصادر التاريخ
إن المواد التي يتم الحصول عليها بهذه الطريقة تسمى بالمصادر Sources ودلالة الإسم واضحة ، فهي المنبع الذي يغترف منه المؤرخ المعلومات اللازمة للإحاطة بحادث معين أو بشخصية معينة ، وهذه المصادر ذات طبيعة متباينة ، وبصفة عامة فهي تنقسم إلى :-
- مصادر مكتوبة
- مصادر نقلية
- مصادر غير مكتوبة
المصادر المكتوبة
وهذه تشمل جميع المواد المكتوبة التي تدور حول الموضوع الأصل . وفيها يختص بالتاريخ القديم ، فهي عبارة من أوراق البردي ، واللوحات الخزفية ، واللوحات الخشبية المغطاة بطبقة من الشمع ، و الكتابة المدونة على القطع الحجرية المستخلصة من الآثار .
أما فيما يختص بالتاريخ الحديث فهي عبارة عن المخطوطات التي على رقائق الجلد ، والبطاقات ، والخطابات ، والمعاهدات ، والكتابات التي على الآثار ، والأختام ، وقطع النقود ، و الميداليات ، إلى غير ذلك .
المصادر النقلية
وأهم مكوناتها المؤلفات التاريخية المكتوبة منذ بدء التاريخ حتى اليوم . ويطلق على هذه المخلفات عدة مسميات تختلف باختلاف الطريقة التي تُقدم بها وقائعها ، فمنها :-
- الحـولـيـات : وهي سرد للوقائع في تسلسل تاريخي سنة فسنة . وفي عهد الرومان، كانت تلك الحوليات يكتبها أعضاء مجمع الكهنوت ، وكان هؤلاء يكتبون الوقائع الأكثر أهمية على لوحات يعلقونها على أبواب منازلهم ، لكي يطلع عليها الجمهور.
- المــذكــرات : وهی سرد لحوادث في تسلسل زمني . واشهرها مذکرات جان فرواسار التي كتبها بين عامي 1370م و 1400م.
- التعليقات : وهي أعمال تاريخية تسرد فيها الحوادث بوساطة شهود عيان أو مشتركين فيها . وتعتبر تعليقات يوليوس قيصر Julius Caesar ذات أهمية خاصة في كل ما يتعلق بحروب الرومان والحرب الأهلية في روما .
- اليوميات : وهي سرد الحوادث يوماً فيوماً . وقد ترك لنـا بعض المؤرخين اليونان و الرومان يوميات حرب لهـا أهمية عظمى من الناحية التاريخية .
مصادر غير مكتوبة
وهي عبارة عن الأطلال والآثار والبقايا المتخلفة عن العصور القديمة .
فالآثار أو ما بقي منها والصور و القدور والأدوات والأسلحة وبقايا المساكن ، هذه كلها يمكن أن تكون مصادر التاريخ ، وهي تستطيع أن تُمثل العناصر القيمة لإلقاء مزيد من الضوء على بعض النقاط في إحدى القصص أو الأزمنة التاريخية ، كما أنها تدل الباحثين على عادات الشعوب .
أدق مـــراحـل العـمـل بالنسبة للمـؤرخ
متى استخلص المؤرخ ما يحتاج إليه من معلومات من مختلف المصادر التاريخية ، فإن ذلك ليس معناه أنه قد أتم عمله ، بل هو في الواقع على شفا أدق مرحلة من مراحل العمل وأكثرها جاذبية .
إن وظيفة المؤرخ لا تقتصر على مجرد عرض جاف للمعلومات التي حصل عليها ، كما كانت طريقة المؤلفين القدماء لليوميات ، بل على العكس من ذلك ، فإن المؤرخ الجدير بهذه التسمية يجب أن يعرف كيف يفسر المعلومات التي يستخلصها من المواد التي توضع تحت تصرفه.
فعليه مثلا أن ( يكتشف ) معنى الحوادث ، ويعرف كيف يربطها بعضها ببعض ويبحث عن أسبابها ، ويتفهم النتائج التي ترتبت عليها . وتلك هي الطريقة الوحيدة أمامه لكي يعطينا وصفاً حياً ومقنعاً للحقبة الزمنية التي يؤرخ لهـا .
المؤرخ يستخدم العلوم المتخصصة
يتبين لنا إذن أن المؤرخ يجمع بين كميات ضخمة من المصادر ، وهذه المصادر تختلف كثيراً الواحدة عن الأخرى ( فهي تتدرج من قطع النقود إلى الكتابات التي على الأحجار والميداليات . . .إلخ ) .
ولإمكان تفسير هذه المخطوطات بدقة ، والتفرقة بين الصحيح منها وغير الصحيح ،
يلجأ الباحث إلى علوم أخرى متخصصة يطلق عليها اسم العلوم المساعدة للتاريخ
، وذلك لأنه لا يستطيع أن يكون خبيراً في كل من هذه الفروع ، ولذا فهو يلجأ
إلى الإخصائي فيها وفيما يلي بعض هذه العلوم :
- علم البرديات : يمثل أحدث وسيلة اهتدى إليها التاريخ . والغرض منها ليس فقط حل رموز وتفسير ماهو مدون على ورق البردي أو الخزف ، لكن ماهو محفور كذلك على الواح الشمع وحطام الآثار .
- علم اللغـات القديمة : وهو يختص بفك رموز الكتابة التي تُوجد على الأبواب و الأعمدة والأحجار والميداليات والمقابر . . إلخ .
- علم دراسة الوثائق : وهو العلم الذي يشهد بصحة المستندات الخطية ، سواء ما اشتملت عليه النسخة الأصلية، أو النسخ المستخرجة منها (المنشورات الباباوية و الوثائق الملكية والإمبراطورية ).
- علم دراسة النقود : وهو يختص بدراسة النقود والميداليات ، وهو ذو فائدة عظمى في معرفة مختلف العصور التاريخية . وإليه يرجع الفضل في أن المؤرخين تمكنوا من معرفة الأعمال العامة التي قام بها الإمبراطور هدريان ( القرن الثاني ) .
- علم الأختام : وهو يدرس طرق إستخدام الأختام واستعمالاتها وتاريخها . والأختام يرجع تاريخها إلى عهد بعيد ، حيث كانت تُستخدم في التوقيع على المكاتبات أو اعتماد صحتها . وقد دلتنا الرسوم المنقوشة عليها على شخصية المرء الذي كان يستعملها .
- علم الآثار القديمة : ويدرس هذا العلم جميع المواد التي لها علاقة بالتاريخ القديم وإليه يرجع الفضل في معرفة عادات شعوب العالم القديم .
كان مما يشغل بال المؤرخين في جميع العصور ، معرفة أخبار ما قبل التاريخ .. والواقع أن إنسان ما قبل التاريخ ، وهو يجهل الكتابة ، لم يترك لنا أي شيء يربطه به . ومع ذلك فإن الباحثين لم يقنطوا .
فبإستخدام نتائج العلوم الأخرى التي تدرس المخلفات ( الأسلحة والأدوات والآنية ) التي كشفت عنها أعمال التنقيب عن الآثار القديمة ، أمكنهم أن يحددوا بدرجة نسبية من الدقة ، مختلف المراحل التي مرت بها حياة إنسان ما قبل التاريخ . وقسموا تلك المراحل إلى أربع فترات حسب الخامات التي استخدمها الإنسان البدائي في صناعة الأدوات التي احتاج إليها في أعماله و حروبه :
- العصر الحجري القديم
- العصر الحجري الحديث
- العصر البرونزي
- العصر الحديدي
أما بالنسبة للعصور التاريخية فكانت :-
- التاريخ القديم
- التاريخ المتوسط
- التاريخ الحديث
- التاريخ المعاصر